فصل: قبض بعض العوضين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


صَرْف

التّعريف

1 - الصّرف في اللّغة‏:‏ يأتي بمعان، منها‏:‏ ردّ الشّيء عن الوجه، يقال‏:‏ صرفه يصرفه صرفاً إذا ردّه وصرفت الرّجل عنّي فانصرف‏.‏

ومنها‏:‏ الإنفاق، كقولك‏:‏ صرفت المال، أي‏:‏ أنفقته‏.‏

ومنها البيع، كما تقول‏:‏ صرفت الذّهب بالدّراهم، أي‏:‏ بعته‏.‏ واسم الفاعل من هذا صيرفيّ، وصيرف، وصرّاف للمبالغة‏.‏

ومنها الفضل والزّيادة‏.‏

قال ابن فارس‏:‏ الصّرف‏:‏ فضل الدّرهم في الجودة على الدّرهم، والدّينار على الدّينار‏.‏

وفي الاصطلاح عرّفه جمهور الفقهاء، بأنّه بيع الثّمن بالثّمن، جنساً بجنس، أو بغير جنس، فيشمل بيع الذّهب بالذّهب، والفضّة بالفضّة، كما يشمل بيع الذّهب بالفضّة، والمراد بالثّمن ما خلق للثّمنيّة، فيدخل فيه بيع المصوغ بالمصوغ أو بالنّقد‏.‏

قال المرغينانيّ‏:‏ سمّي بالصّرف للحاجة إلى النّقل في بدليه من يد إلى يد، أو لأنّه لا يطلب منه إلاّ الزّيادة، إذ لا ينتفع بعينه، والصّرف هو الزّيادة‏.‏

وعرّفه المالكيّة بأنّه بيع النّقد بنقد مغاير لنوعه، كبيع الذّهب بالفضّة، أمّا بيع النّقد بنقد مثله، كبيع الذّهب بالذّهب، أو بيع الفضّة بالفضّة، فسمّوه باسم آخر حيث قالوا‏:‏ إن اتّحد جنس العوضين، فإن كان البيع بالوزن فهو المراطلة، وإن كان بالعدد فهو المبادلة‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - البيع‏:‏

2 - البيع بالمعنى الأعمّ‏:‏ مبادلة المال بالمال بالتّراضي، كما عرّفه الحنفيّة أو‏:‏ عقد معاوضة على غير منافع، كما قال المالكيّة أو‏:‏ هو معاوضة ماليّة تفيد ملك عين أو منفعة على التّأبيد، كما عرّفه الشّافعيّة، أو‏:‏ هو مبادلة المال بالمال تمليكاً وتملّكاً كما عرّفه الحنابلة‏.‏

وبهذا المعنى يشمل البيع الصّرف، والسّلم، والمقايضة، والبيع المطلق‏.‏

فالصّرف قسم من البيع بهذا المعنى‏.‏

أمّا البيع بالمعنى الأخصّ فهو في الجملة‏:‏ عقد معاوضة على غير منافع، أحد عوضيه غير ذهب ولا فضّة‏.‏

وبهذا المعنى يكون البيع قسيماً للصّرف، وبما أنّ هذا القسم أشهر أنواع البيوع سمّي بالبيع المطلق

ب - الرّبا‏:‏

3 - الرّبا لغةً‏:‏ الزّيادة، وفي الاصطلاح عرّفه بعض الفقهاء بأنّه‏:‏ فضل خال عن عوض بمعيار شرعيّ مشروط لأحد المتعاقدين في المعاوضة، والصّلة بينهما أنّ الصّرف إذا اختلّت شروطه يدخله الرّبا‏.‏

ج - السّلم‏:‏

4 - السّلم هو‏:‏ بيع شيء مؤجّل بثمن معجّل‏.‏

د - المقايضة‏:‏

5 - المقايضة هي‏:‏ بيع العين بالعين، أي‏:‏ مبادلة مال بمال غير النّقدين‏.‏

مشروعيّة الصّرف

6 - بيع الأثمان بعضها ببعض أي‏:‏ الصّرف جائز إذا توافرت فيه شروط الصّحّة الآتية، لأنّه نوع من أنواع البيوع كما تقدّم‏.‏

وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا‏}‏‏.‏

وقد ورد في مشروعيّته أحاديث صحيحة منها‏:‏

ما رواه عبادة بن الصّامت رضي الله عنه - أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ » الذّهب بالذّهب، والفضّة بالفضّة، والبرّ بالبرّ، والشّعير بالشّعير، والتّمر بالتّمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل سواءً بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد « أي‏:‏ بيعوا الذّهب بالذّهب والفضّة بالفضّة مثلاً بمثل الحديث، والمراد به المماثلة في القدر، لا في الصّورة، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ » جيّدها ورديئها سواء «‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ » لا تبيعوا الذّهب بالذّهب إلاّ مثلاً بمثل، ولا تشفّوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلاّ مثلاً بمثل، ولا تشفّوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائباً بناجز «‏.‏

وحيث إنّ عقد الصّرف بيع الأثمان بعضها ببعض، ولا يقصد به إلاّ الزّيادة والفضل دون الانتفاع بعين البدل في الغالب، والرّبا كذلك فيه زيادة وفضل، وضع الفقهاء لجواز الصّرف شروطاً تميّز الرّبا عن الصّرف، وتمنع النّاس عن الوقوع في الرّبا‏.‏

شروط الصّرف

أوّلاً‏:‏ تقابض البدلين

7 - اتّفق الفقهاء على أنّه يشترط في الصّرف تقابض البدلين من الجانبين في المجلس قبل افتراقهما‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ أجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم أنّ المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا، أنّ الصّرف فاسد‏.‏

والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ » الذّهب بالذّهب مثلاً بمثل يداً بيد، والفضّة بالفضّة مثلاً بمثل يداً بيد «‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ » بيعوا الذّهب بالفضّة كيف شئتم يداً بيد «‏.‏

وقد نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيع الذّهب بالورق ديناً، ونهى أن يباع غائب بناجز، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ » الذّهب بالورق رباً إلاّ هاء وهاء «‏.‏

8- والافتراق المانع من صحّة الصّرف هو افتراق العاقدين بأبدانهما عن مجلسهما، فيأخذ هذا في جهة، وهذا في جهة أخرى، أو يذهب أحدهما ويبقى الآخر، حتّى لو كانا في مجلسهما لم يبرحا عنه لم يكونا مفترقين وإن طال مجلسهما، لانعدام الافتراق بالأبدان، وكذا إذا قاما عن مجلسهما فذهبا معاً في جهة واحدة إلى منزل أحدهما أو إلى الصّرّاف فتقابضا عنده، ولم يفارق أحدهما صاحبه، جاز عند جمهور الفقهاء، لأنّ المجلس هنا كمجلس الخيار، كما حرّره الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وذكر الحنفيّة صوراً أخرى أيضاً لا تعتبر افتراقاً بالأبدان، فيصحّ فيها الصّرف كما إذا نام العاقدان في المجلس، أو أغمي عليهما أو على أحدهما أو نحو ذلك ولا بدّ في التّقابض من القبض الحقيقيّ، فلا تكفي الحوالة وإن حصل القبض بها في المجلس‏.‏

9- وهذا الشّرط أي‏:‏ التّقابض معتبر في جميع أنواع الصّرف، سواء أكان بيع الجنس بجنسه، كبيع الذّهب بالذّهب والفضّة بالفضّة، أو بغير جنسه كبيع الذّهب بالفضّة‏.‏

أمّا المالكيّة فقد منعوا التّأخير في الصّرف مطلقاً، وقالوا‏:‏ يحرم صرف مؤخّر إن كان التّأخير طويلاً، كما يحرم إن كان قريباً من كلا العاقدين، أو من أحدهما مع فرقة بدن‏.‏

ويمنع التّأخير عندهم ولو كان غلبةً، كأن يحول بينهما عدوّ أو سيل أو نحو ذلك‏.‏

وقال ابن جزيّ‏:‏ إن تفرّقا قبل التّقابض غلبةً فقولان‏:‏ الإبطال والتّصحيح أمّا التّأخير اليسير بدون فرقة بدن ففيه قولان‏:‏ مذهب المدوّنة كراهته، ومذهب الموّازيّة والعتبيّة جوازه‏.‏

قال الدّردير‏:‏ وأمّا دخول الصّيرفيّ حانوته لتقليب الدّراهم فقيل‏:‏ بالكراهة، وقيل‏:‏ بالجواز‏.‏ وكذلك دخوله الحانوت ليخرج منه الدّراهم‏.‏

وفي مواهب الجليل للحطّاب‏:‏ سئل مالك عن الرّجل يصرف من الصّرّاف دنانير بدراهم، ويقول له‏:‏ اذهب بها فزنها عند الصّرّاف، وأره وجوهها وهو قريب منه فقال‏:‏ أمّا الشّيء القريب فأرجو أن لا يكون به بأس، وهو يشبه عندي ما لو قاما إليه جميعاً‏.‏

ونقل عن ابن رشد‏:‏ أستخفّ ذلك للضّرورة الدّاعية، إذ غالب النّاس لا يميّزون النّقود، ولأنّ التّقابض قد حصل بينهما قبل ذلك‏.‏ فلم يكونا بفعلهما هذا مخالفين لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ » الذّهب بالورق رباً إلاّ هاء وهاء « ولو كان هذا المقدار لا يسامح فيه في الصّرف لوقع النّاس بذلك في حرج شديد، واللّه تعالى يقول‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ‏}‏‏.‏

الوكالة بالقبض

10 - ذهب جمهور الفقهاء‏:‏ إلى أنّه تصحّ الوكالة بالقبض في الصّرف، فلو وكّل المتصارفان من يقبض لهما، أو وكّل أحدهما من يقبض له، فتقابض الوكيلان، أو تقابض أحد المتصارفين ووكيل الآخر قبل تفرّق الموكّلين، أو قبل تفرّق الموكّل والعاقد الثّاني الّذي لم يوكّل جاز العقد، وصحّ القبض، لأنّ قبض الوكيل كقبض موكّله‏.‏

وإن افترق الموكّلان، أو الموكّل والعاقد الثّاني قبل القبض، بطل الصّرف، افترق الوكيلان أو لا فالمعتبر في الافتراق المخلّ للصّرف هو افتراق العاقدين لا الوكيلين فإذا عقد ووكّل غيره في القبض، وقبض الوكيل بحضرة موكّله في مجلس العقد صحّ‏.‏

وهذا عند جمهور الفقهاء - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وهو الرّاجح عند المالكيّة -‏.‏

والقول الثّاني عند المالكيّة وهو المشهور‏:‏ أنّه إن وكّل غيره في القبض بطل الصّرف، ولو قبض بحضرة موكّله، لأنّه مظنّة التّأخير‏.‏

قبض بعض العوضين

11 - إذا حصل التّقابض في بعض الثّمن دون بعضه وافترقا بطل الصّرف فيما لم يقبض باتّفاق الفقهاء، واختلفوا فيما حصل فيه التّقابض، ولهم فيه اتّجاهان‏:‏

الأوّل‏:‏ صحّة العقد فيما قبض وبطلانه فيما لم يقبض‏.‏ وهذا رأي جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة، وهو قول عند المالكيّة ووجه عند الحنابلة‏.‏

الثّاني‏:‏ بطلان العقد في الكلّ، وهو قول عند المالكيّة ووجه آخر عند الحنابلة‏.‏

وفيما يلي بعض الأمثلة والفروع الّتي ذكروها‏:‏

12 - أ - ذكر الحنفيّة أنّه‏:‏ لو باع إناء فضّة، وقبض بعض ثمنه، وافترقا، صحّ فيما قبض والإناء مشترك بينهما، وبطل فيما لم يقبض، سواء أباعه بفضّة أم بذهب، لأنّه صرف وهو يبطل بالافتراق قبل القبض، فيتقدّر الفساد بقدر ما لم يقبض، ولا يشيع لأنّه طارئ‏.‏

ولا يكون هذا تفريق الصّفقة أيضاً، لأنّ التّفريق من جهة الشّرع باشتراط القبض، لا من جهة العاقد، كما حرّره الزّيلعيّ‏.‏

وقال البابرتيّ في تعليله‏:‏ تفريق الصّفقة قبل تمامها لا يجوز، وهاهنا الصّفقة تامّة، فلا يكون مانعاً‏.‏

13 - ب - ذكر المالكيّة أنّه إن انعقد بينهما الصّرف على أن يتأخّر منه شيء فسخ، وإن عقدا على المناجزة ثمّ أخّر أحدهما عن صاحبه بشيء منه انتقض الصّرف فيما وقعت فيه النّظرة باتّفاق‏.‏ فإن كانت النّظرة في أقلّ من صرف دينار انتقض صرف دينار، وإن كان أكثر من صرف دينار انتقض صرف دينارين، وإن كان في أكثر من دينارين انتقض صرف ثلاثة دنانير، وهكذا أبداً، وما وقع فيه التّناجز على اختلاف كما ذكره الحطّاب‏.‏

ومثله ذكره ابن رشد الحفيد، ثمّ قال‏:‏ ومبنى الخلاف في الصّفقة الواحدة يخالطها حرام وحلال، هل تبطل الصّفقة كلّها أو الحرام منها فقط‏؟‏

14 - ج - وذكر الشّافعيّة أنّه لو اشترى ديناراً بعشرة دراهم من فضّة، وأقبض للبائع منها خمسةً وتفرّقا بعد قبض الخمس فقط لم يبطل فيما قابلها‏.‏ ويبطل في باقي المبيع‏.‏

ولو استقرض من البائع خمسةً غيرها في المجلس، وأعادها له في المجلس جاز‏.‏ بخلاف ما لو استقرض منه تلك الخمسة فأعادها له، فإنّ العقد يبطل فيهما على المعتمد‏.‏

15 - د - وذكر البهوتيّ من الحنابلة أنّه إن قبض البعض في السّلم والصّرف، ثمّ افترقا قبل تقابض الباقي بطل العقد فيما لم يقبض فقط لفوات شرطه‏.‏

وذكر ابن قدامة أنّه‏:‏ لو صارف رجلاً ديناراً بعشرة دراهم وليس معه إلاّ خمسة دراهم لم يجز أن يفترقا قبل قبض العشرة كلّها‏.‏ فإن قبض الخمسة وافترقا بطل الصّرف في نصف الدّينار‏.‏ وهل يبطل في ما يقابل الخمسة المقبوضة‏؟‏ على وجهين‏:‏ بناءً على تفريق الصّفقة‏.‏

ثانياً‏:‏ الخلوّ عن الخيار

16 - يرى جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة في المذهب - أنّ الصّرف لا يصحّ مع خيار الشّرط‏.‏ فإن شرط الخيار فيه لكلا العاقدين أو لأحدهما فسد الصّرف، لأنّ القبض في هذا العقد شرط صحّة، أو شرط بقائه على الصّحّة والخيار يمنع انعقاد العقد في حقّ الحكم، فيمنع صحّة القبض كما قال الكاسانيّ‏.‏

قال ابن الهمام، لا يصحّ في الصّرف خيار الشّرط، لأنّه يمنع ثبوت الملك أو تمامه، وذلك يخلّ بالقبض المشروط، وهو القبض الّذي يحصل به التّعيين‏.‏

لكنّ الحنفيّة قالوا‏:‏ إذا أسقط الخيار في المجلس يعود العقد إلى الجواز، لارتفاعه قبل تقرّره خلافاً لزفر‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ لا يبطل الصّرف بتخاير، أي‏:‏ باشتراط الخيار فيه كسائر الشّروط الفاسدة في البيع، فيصحّ العقد ويلزم بالتّفرّق‏.‏

وهذا كلّه في خيار الشّرط، بخلاف خيار الرّؤية والعيب، فإنّه لا يمنع الملك فلا يمنع تمام القبض‏.‏ إلاّ أنّ الحنفيّة قالوا‏:‏ لا يتصوّر في النّقد وسائر الدّيون خيار رؤية، لأنّ العقد ينعقد على مثلها لا عينها، حتّى لو باعه هذا الدّينار بهذه الدّراهم، لصاحب الدّينار أن يدفع غيره‏.‏ وكذا لصاحب الدّراهم‏.‏

ثالثاً‏:‏ الخلوّ عن اشتراط الأجل

17 - اتّفق الفقهاء في الجملة على أنّه لا يجوز في الصّرف إدخال الأجل للعاقدين أو لأحدهما فإن اشترطاه لهما، أو لأحدهما فسد الصّرف، لأنّ قبض البدلين مستحقّ قبل الافتراق، والأجل يفوّت القبض المستحقّ بالعقد شرعاً، فيفسد العقد‏.‏

وذكر الحنفيّة أنّه إن اشترط الأجل ثمّ أبطل صاحب الأجل أجله قبل الافتراق، فنقد ما عليه ثمّ افترقا عن تقابض، ينقلب العقد جائزاً عندهم، خلافاً لزفر‏.‏

رابعاً‏:‏ التّماثل

18 - وهذا الشّرط خاصّ بنوع خاصّ من الصّرف، وهو بيع أحد النّقدين بجنسه‏.‏

فإذا بيع الذّهب بالذّهب، أو الفضّة بالفضّة، يجب فيه التّماثل في الوزن‏.‏ وإن اختلفا في الجودة، والصّياغة ونحوهما‏.‏ وهذا باتّفاق الفقهاء‏.‏ وسواء أكانت الزّيادة من جنسه أم من جنس آخر أو من غيرهما‏.‏

زاد الحنفيّة‏:‏ ولا اعتبار به عدداً‏.‏ والشّرط التّساوي في العلم، لا بحسب نفس الأمر فقط، فلو لم يعلما التّساوي، وكان في نفس الأمر متحقّقاً لم يجز إلاّ إذا ظهر في المجلس‏.‏

والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ » لا تبيعوا الذّهب بالذّهب إلاّ مثلاً بمثل ولا تبيعوا الفضّة بالفضّة إلاّ مثلاً بمثل، ولا تشفّوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منهما غائباً بناجز « وسيأتي تفصيله في أنواع الصّرف‏.‏

أنواع الصّرف

19 - من الأمثلة والصّور الّتي ذكرها الفقهاء في باب الصّرف والأحكام الّتي تتعلّق بكلّ صورة، يمكن تقسيم الصّرف إلى الأنواع الآتية‏:‏

النّوع الأوّل‏:‏ بيع أحد النّقدين - الذّهب والفضّة - بجنسه

20 - اتّفق الفقهاء على أنّه إذا باع فضّةً بفضّة أو ذهباً بذهب يجب أن يكون يداً بيد مثلاً بمثل في المقدار والوزن، فيحرم بيع النّقد بجنسه تفاضلاً، كما يحرم بيعه بجنسه نساءً وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة منها‏:‏

ما روى عبادة بن الصّامت - رضي الله عنه - قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ » الذّهب بالذّهب والفضّة بالفضّة‏.‏‏.‏‏.‏ مثلاً بمثل يداً بيد «‏.‏

ومنها ما رواه أبو سعيد الخدريّ - رضي الله عنه - قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ » لا تبيعوا الذّهب بالذّهب إلاّ مثلاً بمثل، ولا تشفّوا بعضها على بعض‏.‏ ولا تبيعوا الورق بالورق إلاّ مثلاً بمثل ولا تشفّوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا غائباً بناجز «‏.‏

وروى عثمان بن عفّان - رضي الله عنه - أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ » لا تبيعوا الدّينار بالدّينارين ولا الدّرهم بالدّرهمين «‏.‏

ومنها حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً‏:‏ » الذّهب بالذّهب وزناً بوزن مثلاً بمثل، والفضّة بالفضّة وزناً بوزن مثلاً بمثل فمن زاد أو استزاد فهو رباً «‏.‏

21 - ولا اعتبار بالجودة والرّداءة في الذّهب والفضّة، لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ » جيّدها ورديئها سواء «‏.‏

واشترط الفقهاء أن يكون العاقدان على علم بمقدار العوضين، وبالتّساوي بينهما، فلا يجوز عندهم بيع النّقد بجنسه مجازفةً، بأن لم يعلم العاقدان كمّيّة العوضين، وإن كانا في نفس الأمر متساويين قالوا‏:‏ وجهل التّساوي حالة العقد كعلم التّفاضل في منع الصّحّة إلاّ أنّ الحنفيّة قالوا‏:‏ إن باعها مجازفةً ثمّ وزناً في المجلس فظهرا متساويين يجوز، لأنّ ساعات المجلس كساعة واحدة، فصار كالعلم في ابتدائه، بخلاف ما لو ظهر التّساوي بعد الافتراق، فإنّه لا يجوز خلافاً لزفر من الحنفيّة فإنّه يقول‏:‏ الشّرط التّساوي، وقد ثبت، واشتراط العلم به زيادة بلا دليل‏.‏ 22 - وجمهور الفقهاء على أنّه لا اعتبار بالصّياغة والصّناعة أيضاً، فيدخل في إطلاق المساواة المصوغ بالمصوغ، والتّبر بالآنية، فعين الذّهب والفضّة وتبرهما، ومضروبهما، وغير المضروب منهما، والصّحيح منهما، والمكسور كلّها سواء في جواز بيعها مع التّماثل في المقدار، وتحريمه مع التّفاضل، حتّى لو باع آنية فضّة بفضّة، أو آنية ذهب بذهب أحدهما أثقل من الآخر لا يجوز، مع تفصيل عند المالكيّة يأتي بيانه والدّليل على ذلك ما ورد في حديث عبادة بن الصّامت - رضي الله عنه - عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ » الذّهب بالذّهب تبرها وعينها، والفضّة بالفضّة تبرها وعينها «‏.‏

وما رواه أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال‏:‏ أتي عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - بإناء كسروانيّ قد أحكمت صياغته، فبعثني به لأبيعه، فأعطيت وزنه وزيادةً، فذكرت ذلك لعمر فقال‏:‏ أمّا الزّيادة فلا‏.‏

هذا عند جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة وهو المذهب عند الحنابلة‏.‏

وحكي عن أحمد رواية أخرى أنّه لا يجوز بيع الصّحاح بالمكسّرة، ولأنّ للصّناعة قيمةً، بدليل حالة الإتلاف فيصير كأنّه ضمّ قيمة الصّناعة إلى الذّهب‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ إن قال لصائغ‏:‏ صغ لي خاتماً وزنه درهم، وأعطيك مثل وزنه وأجرتك درهماً فليس ذلك ببيع درهم بدرهمين، وللصّائغ أخذ الدّرهمين أحدهما مقابلة الخاتم والثّاني أجرةً له ومثله ما ذكره البهوتيّ‏.‏

وقد تفرّد المالكيّة بتسمية بيع النّقد بجنسه المراطلة أو المبادلة، فبيع العين بالعين عندهم ثلاثة أقسام‏:‏ إمّا مراطلة، إمّا مبادلة، وإمّا صرف‏.‏

فالمراطلة بيع النّقد بمثله وزناً‏.‏

والمبادلة بيع النّقد بمثله عدداً‏.‏

والصّرف بيع الذّهب بالفضّة، أو بيع أحدهما بفلوس‏.‏

وقد صرّحوا في أكثر من موضع بحرمة التّفاضل في بيع العين بمثلها مطلقاً‏.‏

قال الدّردير‏:‏ حرم في عين ربا فضل أي‏:‏ زيادة ولو مناجزةً إن اتّحد الجنس، فلا يجوز درهم بدرهمين، ولا دينار بدينارين وفي رسالة ابن أبي زيد القيروانيّ‏:‏ ومن الرّبا في غير النّسيئة بيع الفضّة بالفضّة يداً بيد متفاضلاً، وكذلك الذّهب بالذّهب‏.‏

وقال خليل‏:‏ وحرم في نقد وطعام ربا فضل ونساء‏.‏

وظاهر هذه العبارات يدلّ على حرمة المفاضلة في بيع العين بمثلها مطلقاً، ولو قلّت الزّيادة، لكنّهم أجازوا الزّيادة اليسيرة في ثلاث مسائل، كما حرّره النّفراويّ وغيره‏:‏

23 - الأولى‏:‏ المبادلة‏:‏

وهي بين العين بمثلها عدداً، حيث قالوا‏:‏ تجوز المبادلة في الذّهب والفضّة بمثلهما إن تساويا عدداً ووزناً، وجازت الزّيادة في مبادلة القليل من أحد النّقدين بشروط‏:‏

أ - أن تقع تلك المعاقدة على وجه المبادلة دون البيع‏.‏

ب - أن تكون الدّراهم أو الدّنانير الّتي وقعت المبادلة فيها معدودةً، أي‏:‏ يتعامل بها عدداً لا وزناً‏.‏

ج - أن تكون الدّراهم أو الدّنانير المبدّلة قليلةً دون سبعة‏.‏

د - أن تكون الزّيادة في أحد البدلين في الوزن لا في العدد، فلا بدّ أن يكون واحداً بواحد، لا واحداً باثنين‏.‏

هـ – أن تكون الزّيادة في كلّ دينار أو درهم السّدس فأقلّ‏.‏

قال الصّاويّ‏:‏ هذا الشّرط ذكره ابن شاس، وابن الحاجب، وابن جماعة لكن قال في العباب‏:‏ أكثر الشّيوخ لا يذكرون هذا الشّرط، وقد جاء لفظ ‏"‏ السّدس ‏"‏ في المدوّنة، وهو يحتمل للتّمثيل والشّرطيّة‏.‏

ومثله ما ذكره الدّسوقيّ‏.‏

و - أن تقع على وجه المعروف، أي‏:‏ يقصد المعروف، لا على وجه المبايعة والمغالبة‏.‏

قال الدّسوقيّ‏:‏ ولا بدّ في جواز المبادلة من كون الدّراهم أو الدّنانير مسكوكةً‏.‏

وهل يشترط اتّحاد السّكّة أو لا يشترط‏؟‏ قولان‏:‏ والمعتمد عدم اشتراط اتّحادهما‏.‏

وذكر بعضهم أنّ ما يتعامل به عدداً من غير المسكوك حكمه حكم المسكوك‏.‏ واعتمده الصّاويّ‏.‏ 24 - المسألة الثّانية‏:‏

المسافر تكون معه العين غير مسكوكة، ولا تروج معه في المحلّ الّذي يسافر إليه، فيجوز له دفعها للسّكّاك ليدفع له بدلها مسكوكاً، ويجوز له دفع أجرة السّكّة وإن لزم عليه الزّيادة، لأنّ الأجرة زيادة، وعلى كونها عرضاً تفرض مع العين عيناً‏.‏

وإنّما أجيزت للضّرورة، لعدم تمكّن المسافر من السّفر عند تأخيره لضربها‏.‏

25 - المسألة الثّالثة‏:‏

الشّخص يكون معه الدّرهم الفضّة، ويحتاج إلى نحو الغذاء، فيجوز له أن يدفعه لنحو الزّيّات ويأخذ ببعضه طعاماً، وبالنّصف الآخر فضّةً، حيث كان ذلك على وجه البيع، أو عوض كراء بعد تمام العمل، لوجوب تعجيل الجميع، وكون المدفوع درهماً فأقلّ لا أكثر، وأن يكون المأخوذ والمدفوع مسكوكين، وأن يجري التّعامل بالمدفوع والمأخوذ ولو لم تتّحد السّكّة، وأن يتّحدا في الرّواج، وأن يتعجّل الدّرهم ومقابله من عين وما معها وهذا في المبادلة‏.‏

26 - أمّا المراطلة‏:‏ وهي بيع عين بمثله أي‏:‏ ذهب بذهب أو فضّة بفضّة وزناً بصنجة أو كفّتين فيشترط فيها التّساوي، ولا تغتفر فيها الزّيادة ولو قليلاً‏.‏

27 - وتجوز المراطلة عند المالكيّة إن كان أحد النّقدين كلّه أجود من جميع مقابله، كدنانير مغربيّة تراطل بدنانير مصريّة أو إسكندريّة، والفرض أنّ المغربيّة أجود من المصريّة، وهي أجود من الإسكندريّة، أو يكون بعضه أجود والبعض الآخر مساو لجميع الآخر في الجودة، لا أن يكون بعض أحدهما أدنى من الآخر، وبعضه أجود منه، كسكندريّة ومغربيّة تراطل بمصريّة، فلا يجوز لدوران الفضل بين الجانبين‏.‏

النّوع الثّاني‏:‏ بيع أحد النّقدين بالآخر

28 - اتّفق الفقهاء على جواز بيع أحد النّقدين بالآخر متفاضلاً في الوزن والعدد، أو متساوياً، كما اتّفقوا على جواز بيع أحدهما بالآخر جزافاً، بأن لم يعلم أحد العاقدين أو كلاهما قدر ووزن البدلين، وذلك لعدم المجانسة، وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ » بيعوا الذّهب بالذّهب كيف شئتم يداً بيد «‏.‏

ولقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ » إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد «‏.‏

لكن يشترط في هذا النّوع من الصّرف أيضاً التّقابض في المجلس قبل الافتراق، لحرمة ربا النّساء في جميع أنواع الصّرف، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ » الذّهب بالورق رباً إلاّ هاء وهاء «‏.‏

قال ابن الهمام‏:‏ معنى قوله‏:‏ ‏"‏ رباً ‏"‏ أي‏:‏ حرام واستثنى حالة التّقابض من الحرام بحصر الحلّ فيها، فينتفي الحلّ في كلّ حالة غيرها، فيدخل في عموم المستثنى حالة التّفاضل والتّساوي والمجازفة، فيحلّ كلّ ذلك‏.‏

وهذا هو النّوع الوحيد الّذي يسمّيه المالكيّة بالصّرف‏.‏

القسم الثّالث‏:‏ بيع النّقد بالنّقد ومع أحدهما أو كليهما شيء آخر

29 - إذا باع نقداً بنقد غير جنسه ومع أحدهما أو كليهما متاع، كأن باع ذهباً بفضّة وثوب، أو سيفاً محلّىً بذهب بفضّة، أو بها ومعها متاع آخر، وحصل التّقابض في المجلس صحّ العقد، مجازفةً كان أو متفاضلاً أو متساوياً، لأنّه من النّوع الثّاني في الحقيقة، لاختلاف الجنسين، فيجوز فيه التّفاضل والمجازفة بشرط التّقابض في المجلس قبل الافتراق‏.‏

30 - أمّا إذا باع نقداً مع غيره بنقد من جنسه، كفضّة بفضّة ومعها شيء، كدرهمين بدرهم ومدّ عجوة، أو كسيف محلّىً بالذّهب أو فضّة بثمن جنسه فقد اختلف الفقهاء في ذلك‏:‏

فذهب الشّافعيّة والحنابلة في المذهب إلى أنّه لا يجوز بيع نقد بجنسه ومع أحدهما أو كليهما شيء آخر، فلا يجوز بيع مدّ ودرهم بدرهمين، أو بيع درهم وثوب‏.‏ كما لا يجوز بيع شيء محلّىً بذهب أو فضّة كسيف أو مصحف بجنس حليته‏.‏

وهذه المسألة معروفة بمسألة‏:‏ ‏"‏ مدّ عجوة ‏"‏‏.‏

واستدلّوا بما رواه فضالة بن عبيد قال‏:‏ » أتي النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بقلادة فيها خرز وذهب وهو من الغنائم تباع، فأمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالذّهب الّذي في القلادة فنزع وحده، ثمّ قال لهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ الذّهب بالذّهب وزناً بوزن «، وفي رواية قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ » لا حتّى تميّز بينهما «‏.‏

واستدلّوا من جهة المعنى بأنّ العقد إذا جمع عوضين مختلفي الجنس وجب أن ينقسم أحدهما على الآخر على قدر قيمة الآخر في نفسه، فإذا اختلفت القيمة اختلف ما يأخذه من العوض فيؤدّي ذلك إلى المفاضلة أو الجهل بالمماثلة‏.‏

وقال الحنفيّة، وهو رواية عند الحنابلة، يجوز بيع نقد مع غيره بنقد من جنسه بشرط أن يزيد الثّمن - أي النّقد المفرد - على النّقد المضموم إليه‏.‏ وإلاّ بأن تساوى النّقدان، أو كان النّقد المفرد أقلّ بطل البيع، لتحقّق التّفاضل المحرّم‏.‏ وكذا إذا لم يدر الحال، لاحتمال المفاضلة والرّبا‏.‏

فمن باع سيفاً محلّىً بثمن أكثر من الحلية، وكان الثّمن من جنس الحلية جاز، وذلك لمقابلة الحلية بمثلها ذهباً كانت أم فضّةً‏.‏

والزّيادة بالنّصل والحمائل والجفن‏.‏ والعقد إذا أمكن حمله على الصّحّة لم يحمل على الفساد‏.‏ وإن باعه بأقلّ من قدر الحلية أو مثله لا يجوز، لأنّه رباً‏.‏ ولأنّه قبض قدر الحلية قبل الافتراق، لأنّه صرف، فلا بدّ من قبض البدلين في المجلس‏.‏

ولو اشتراه بعشرين درهماً، والحلية عشرة دراهم فقبض منها عشرةً فهي في حصّة الحلية وإن لم يعيّنها، حملاً لتصرّفه على الصّحّة‏.‏

وكذا إذا قال خذها من ثمنهما، لأنّ قصده الصّحّة، وقد يراد بالاثنين أحدهما، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ‏}‏‏.‏

فإن افترقا لا عن قبض بطل البيع فيهما إن كانت الحلية لا تتخلّص إلاّ بضرر كجذع في سقف، وإن كانت تتخلّص بغير ضرر جاز في السّيف وبطل في الحلية‏.‏

31 - ومن هذا الباب ما ذكر الحنفيّة أنّه لو تبايعا فضّةً بفضّة أو ذهباً بذهب وأحدهما أقلّ ومع أقلّهما شيء آخر تبلغ قيمته باقي الذّهب فإنّه يجوز من غير كراهة، وإن لم تبلغ فيجوز مع الكراهة‏.‏

أمّا إذا لم يكن له قيمة كالتّراب فلا يجوز البيع لتحقّق الرّبا، إذ الزّيادة لا يقابلها عوض‏.‏

32 - أمّا المالكيّة فالأصل عندهم في بيع المحلّى المنع، لأنّ في بيعه بصنفه بيع ذهب وعرض بذهب، أو بيع فضّة وعرض بفضّة لكن رخّص فيه للضّرورة بشروط ثلاثة وهي‏:‏

1 - أن تكون تحليته مباحاً، كسيف ومصحف‏.‏

2 - وأن تكون الحلية قد سمّرت على المحلّى بأن يكون في نزعها فساد أو غرم دراهم‏.‏

3 - وأن تكون الحلية قدر الثّلث فأقلّ، لأنّه تبع، وهل يعتبر الثّلث بالقيمة أو بالوزن‏؟‏ خلاف‏.‏ والمعتمد الأوّل‏.‏

فإن بيع سيف محلّىً بذهب بسبعين ديناراً ذهباً، وكان وزن حليته عشرين ولصياغتها تساوي ثلاثين، وقيمة النّصل وحده أربعون لم يجز على الأوّل وجاز الثّاني‏.‏

قال ابن رشد في تعليل قول الإمام مالك‏:‏ صحّة بيع المحلّى إن كان فيه من الذّهب أو الفضّة الثّلث فأقلّ، إذا كانت الفضّة قليلةً لم تكن مقصودةً في البيع‏.‏ وصارت كأنّها هبة‏.‏

النّوع الرّابع‏:‏ بيع جملة من الدّراهم والدّنانير بجملة منها

33 - ذهب جمهور الفقهاء - المالكيّة، والشّافعيّة، والحنابلة، وزفر من الحنفيّة - إلى أنّه لو باع جملةً من الدّراهم والدّنانير بدراهم أو بدنانير، أو بجملة من الدّراهم والدّنانير بطل العقد‏.‏ واعتبر الشّافعيّة والحنابلة هذه المسألة فرع مسألة‏:‏ ‏"‏ مدّ عجوة ‏"‏، وقالوا في علّة بطلانه إنّ اشتمال أحد طرفي العقد أو كليهما على مالين مختلفين توزيع ما في الآخر عليهما اعتباراً بالقيمة، وهذا يؤدّي إلى المفاضلة أو الجهل بالمماثلة كما تقدّم‏.‏ والجهل بالمماثلة حقيقة المفاضلة في باب الرّبا قالوا‏:‏ إنّ التّوزيع هو مقتضى العقد، كما في بيع شقص مشفوع وسيف بألف‏.‏ وقيمة الشّقص مائة والسّيف خمسون، فإنّ الشّفيع يأخذ الشّقص بثلثي القيمة، ولولا التّوزيع لما صحّ ذلك‏.‏

قال السّبكيّ‏:‏ ولا يترك التّوزيع وإن أدّى إلى بطلان البيع، فإنّ العقد إذا كان له مقتضىً حمل عليه، سواء أدّى إلى فساد العقد أو إلى صلاحه، كما إذا باع درهماً بدرهمين، ولمّا كان مقتضى العقد مقابلة جميع الثّمن للثّمن حمل عليه وإن أدّى إلى فساده، ولم يحمل على أنّ أحد الدّرهمين هبة والآخر ثمن ليصحّ العقد‏.‏

وصرّح المالكيّة بعدم جواز صرف ذهب وفضّة من جانب بمثلهما من جانب آخر‏.‏ فقالوا‏:‏ لا يجوز أن يباع دينار ودرهم بدينار ودرهم، لعدم تحقّق المماثلة باحتمال رغبة أحدهما في دينار الآخر، فيقابله بديناره وبعض درهمه، ويصير باقي درهمه في مقابلة درهم الآخر‏.‏ قالوا‏:‏ إنّ قاعدة المذهب سدّ الذّرائع فالفضل المتوهّم كالمحقّق، وتوهّم الرّبا كتحقّقه، فلا يجوز أن يكون مع أحد النّقدين أو مع كلّ منهما غير نوعه‏.‏

34 - وقال الحنفيّة عدا زفر، صحّ بيع درهمين ودينار بدرهم ودينارين، ويجعل كلّ جنس مقابلاً بخلاف جنسه، فيكون في الحقيقة بيع درهمين بدينارين، وبيع درهم بدينار، وهما جنسان مختلفان، ولا يشترط التّساوي فيهما، فيصحّ العقد‏.‏

وقالوا في توجيه صحّة هذا العقد إنّ في صرف الجنس إلى خلافه تصحيح العقد، وإلى جنسه فساده، ولا معارضة بين الفاسد والصّحيح، فحمل العقد على الصّحّة أولى، ولأنّ العقد يقتضي مطلق المقابلة من غير أن يتعرّض لمقيّد، لا مقابلة الكلّ بالكلّ بطريق الشّيوع، ولا مقابلة الفرد من جنسه ولا من خلاف جنسه فيحمل على المقيّد المصحّح عند تعذّر العمل بالإطلاق‏.‏

قال في الهداية‏:‏ إنّ المقابلة المطلقة تحمل الفرد بالفرد، كما في مقابلة الجنس بالجنس وإنّه طريق متعيّن لتصحيحه، فيحمل عليه تصحيحاً لتصرّفه‏.‏

وقال الموصليّ في توجيهه‏:‏ إنّهما قصدا الصّلة ظاهراً، فيحمل عليه تحقيقاً لقصدهما ودفعاً لحاجتهما‏.‏

35 - ونظير هذه المسألة ما إذا باع أحد عشر بعشرة دراهم ودينار فيجوز عند الحنفيّة وتكون العشرة بمثلها، والدّينار بالدّرهم، لأنّ شرط البيع في الدّراهم التّماثل وهو موجود ظاهراً، إذ الظّاهر من حال البائع إرادة هذا النّوع من المقابلة حملاً على الصّلاح، وهو الإقدام على العقد الجائز دون الفاسد، فبقي الدّرهم بالدّينار، وهو جائز أيضاً، لأنّهما جنسان، ولا يعتبر التّساوي بينهما‏.‏

النّوع الخامس‏:‏ الصّرف على الذّمّة أو في الذّمّة

لهذا النّوع من الصّرف عدّة صور‏:‏

36 - الأولى‏:‏ أن تشتري من رجل دراهم بدينار في مجلس، ثمّ استقرضت أنت ديناراً من رجل آخر إلى جانبك، واستقرض هو الدّراهم من رجل إلى جانبه، فدفعت إليه الدّينار وقبضت الدّراهم‏.‏

فذهب الحنفيّة، والشّافعيّة، والحنابلة، إلى أنّه‏:‏ صحّ الصّرف إذا تقابضا في المجلس لأنّ القبض في المجلس يجري مجرى القبض عند العقد‏.‏

وكذلك يصحّ الصّرف عندهم إذا كان نقد أحدهما حاضراً واستقرض الآخر‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إن تسلّفا فالعقد فاسد، لأنّ تسلّفهما مظنّة الطّول المخلّ بالتّقابض، وإن تسلّف أحدهما وطال فكذلك، وإن لم يطل جاز عند ابن القاسم، ولم يجزه أشهب‏.‏

قال الحطّاب‏:‏ ولقّبت المسألة بالصّرف على الذّمّة‏.‏

37 - الصّورة الثّانية‏:‏ أن يكون لرجل في ذمّة رجل ذهب وللآخر عليه دراهم مثلاً، فاصطرفا بما في ذمّتيهما‏.‏ ولقّبت هذه المسألة بالصّرف في الذّمّة‏.‏

فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى عدم جواز هذا النّوع من الصّرف، وعلّلوا عدم الجواز بأنّه بيع دين بدين‏.‏ قال ابن قدامة‏:‏ ولا يجوز ذلك بالإجماع‏.‏

وقد روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه‏:‏ » نهى عن بيع الكالئ بالكالئ « وفسّر ببيع الدّين بالدّين‏.‏

38 - وقال الحنفيّة‏:‏ صحّ بيع من عليه عشرة دراهم دين بدينار ممّن له عليه، أي من دائنه، فإذا كان لرجل على آخر عشرة دراهم دين، فباعه الّذي عليه العشرة ديناراً بالعشرة الّتي عليه، ودفع الدّينار إليه فهو جائز‏.‏

وتقع المقاصّة بين العشرتين بنفس العقد، ولا تحتاج إلى موافقة أخرى‏.‏

ووجه الجواز أنّه جعل ثمنه دراهم لا يجب قبضها، ولا تعيّنها بالقبض، لأنّ التّعيين للاحتراز عن الرّبا، أي‏:‏ ربا النّسيئة، ولا ربا في دين سقط، وإنّما الرّبا في دين يقع الخطر في عاقبته‏.‏

أمّا إذا باع المدين الدّينار بعشرة مطلقة أي‏:‏ بغير ذكر ‏"‏ دين عليه ‏"‏ ودفع البائع الدّينار للمشتري فيصحّ ذلك إذا توافقا على مقاصّة العشرة بالعشرة استحساناً عند الحنفيّة‏.‏

والقياس أنّه لا يجوز، وهو قول زفر، لكونه تصرّفاً في بدل الصّرف قبل قبضه، ووجه الاستحسان أنّه بالتّقابض انفسخ العقد الأوّل وانعقد صرف آخر مضاف إلى الدّين‏.‏

هذا، وقد صرّح الحنفيّة بأنّه إذا كان الدّينان من جنسين أو متفاوتين في الوصف أو مؤجّلين أو أحدهما حالاً والآخر مؤجّلاً أو أحدهما غلّةً والآخر صحيحاً فلا تقع المقاصّة إلاّ إذا تقاصّا أي‏:‏ اتّفقا على المقاصّة، كما نقله ابن عابدين عن الذّخيرة‏.‏ وإذا اختلف الجنس وتقاصّا، كما لو كان له عليه مائة درهم وللمديون مائة دينار عليه تصير الدّراهم قصاصاً بمائة من قيمة الدّنانير، ويبقى لصاحب الدّنانير على صاحب الدّراهم ما بقي منها‏.‏

39 - أمّا المالكيّة فقد فصّلوا في الموضوع وقالوا‏:‏ إن وقع صرف دين بدين فإن تأجّل الدّينان عليهما، بأن كان لأحدهما على الآخر دنانير مؤجّلة وللآخر عليه دراهم كذلك، سواء اتّفق الأجلان أم اختلفا، وتصارفا قبل حلولهما بأن أسقط كلّ واحد منهما ما له على الآخر في نظير إسقاط الآخر ما له عليه فإنّه لا يجوز لأنّه يكون من بيع الدّين كما قال ابن رشد‏.‏

كذلك لا يجوز إن تأجّل من أحدهما وحلّ الآخر‏.‏ قال الأبيّ في وجه عدم الجواز‏:‏ إنّ الحقّ في أجل دين النّقد للمدين وحده، وليس للدّائن أخذه قبل أجله بغير رضا المدين‏.‏ فإن تأجّلا فقد اشترى كلّ منهما ما عليه على أن لا يستحقّه حتّى يحلّ أجله، فيقضيه من نفسه فقد تأخّر قبض كلّ منهما ما اشتراه بالصّرف عن عقده بمدّة الأجل، وإن تأجّل من أحدهما فقد اشترى المدين المؤجّل ما هو عليه على أنّه لا يستحقّ قبضه إلاّ بعد مضيّ أجله، فيقضيه من نفسه، فقد تأخّر قبضه عن صرفه بمدّة الأجل‏.‏

هذا في الصّرف الّذي يكون عندهم بين دينين من نوعين ذهب وفضّة‏.‏ ونظيره ما قالوه في المقاصّة الّتي تكون بين دينين متّحدي النّوع والصّنف وتفصيل أحكام المقاصّة في مصطلحها‏.‏ 40 - الصّورة الثّالثة‏:‏ اقتضاء أحد النّقدين من الآخر، بأن كان لك على آخر دراهم فتأخذ منه دنانير، أو كانت عليه دنانير فتأخذ منه دراهم بسعر يومها‏.‏

وهذا جائز عند الحنفيّة والحنابلة، وهو مذهب الشّافعيّة في الجديد، بشرط قبض البدل في المجلس‏.‏

وذلك لحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال‏:‏ » أتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة، فقلت يا رسول اللّه رويدك أسألك، إنّي أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدّنانير وآخذ الدّراهم، وأبيع بالدّراهم وآخذ الدّنانير، وآخذ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء «‏.‏

وهذا يدلّ على جواز الاستبدال عن الثّمن الثّابت في الذّمّة‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ وتوقّف أحمد فيما إن كان المقضيّ في الذّمّة مؤجّلاً‏.‏

وقال القاضي وهذا يحتمل وجهين‏:‏ أحدهما المنع، وهو قول مالك ومشهور قولي الشّافعيّ لأنّ ما في الذّمّة لا يستحقّ قبضه، فكان القبض ناجزاً في أحدهما، والنّاجز يأخذ قسطاً من الثّمن‏.‏ والآخر الجواز وهو قول أبي حنيفة، لأنّه ثابت في الذّمّة بمنزلة المقبوض، فكأنّه رضي بتعجيل المؤجّل‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ والصّحيح الجواز إذا قضاه بسعر يومها، ولم يجعل للمقضيّ فضلاً لأجل تأجيل ما في الذّمّة‏.‏

النّوع السّادس‏:‏ صرف الدّراهم والدّنانير المغشوشة

41 - اتّفق الفقهاء في الجملة على جواز المعاملة بالدّراهم والدّنانير المغشوشة إن راجت نظراً للعرف، أمّا إذا بيعت بعضها ببعض مصارفةً فقد فصّلوا صورها وأحكامها على النّحو التّالي‏:‏ قال الحنفيّة‏:‏ إنّ ما غلب ذهبه أو فضّته حكمهما حكم الذّهب والفضّة الخالصين، وذلك لأنّ النّقود لا تخلو عن قليل غشّ للانطباع، فلا يصحّ بيع الخالص به، ولا بيع بعضه ببعض إلاّ متساوياً وزناً‏.‏

وما غلب عليه الغشّ منهما ففي حكم العروض اعتباراً للغالب، فصحّ بيعه بالخالص إن كان الخالص أكثر ممّا في المغشوش، ليكون قدره بمثله والزّائد بالغشّ‏.‏ ويجوز كذلك صرفه بجنسه متفاضلاً وزناً وعدداً بصرف الجنس لخلافه، أي‏:‏ بأن يصرف فضّةً كلّ واحد منهما إلى غشّ الآخر، وذلك بشرط التّقابض قبل الافتراق، لأنّه صرف في البعض لوجود الفضّة أو الذّهب من الجانبين، ويشترط في - الغشّ أيضاً -، لأنّه لا تمييز إلاّ بضرر‏.‏

وإن كان الخالص مثل المغشوش، أو أقلّ منه، أو لا يدرى فلا يصحّ البيع للرّبا في الأوّلين، ولاحتماله في الثّالث، وللشّبهة في الرّبا حكم الحقيقة‏.‏

وهذا النّوع، أي‏:‏ الغالب الغشّ لا يتعيّن بالتّعيين إن راج، لثمنيّته حينئذ، لأنّه بالاصطلاح صار أثماناً، فما دام ذلك الاصطلاح موجوداً لا تبطل الثّمنيّة‏.‏ وإن لم يرج تعيّن بالتّعيين كالسّلعة، لأنّها في الأصل سلعة وإنّما صارت أثماناً بالاصطلاح، فإذا تركوا المعاملة بها رجعت إلى أصلها‏.‏ قالوا‏:‏ وصحّ المبايعة والاستقراض بما يروج من الغالب الغشّ وزناً وعدداً، أو بهما عملاً بالعرف‏.‏ أمّا المتساوي غشّه وفضّته، أو ذهبه فكغالب الفضّة أو الذّهب في التّبايع والاستقراض، فلم يجز إلاّ الوزن بمنزلة الدّراهم الرّديئة إلاّ إذا أشار إليهما، فيكون بياناً لقدرها ووصفها‏.‏

أمّا في الصّرف فحكم متساوي الغشّ والفضّة أو الذّهب حكم ما غلب غشّه فيصحّ بيعه بجنسه بصرف الجنس إلى خلاف جنسه، أي‏:‏ بأن يصرف ما في كلّ منهما من الغشّ إلى ما في الآخر من الفضّة‏.‏

قال ابن عابدين‏:‏ وظاهره جواز التّفاضل - هنا أيضاً - لكن قال الزّيلعيّ نقلاً عن الخانيّة‏:‏ إن كان نصفها صفراً ونصفها فضّةً لا يجوز التّفاضل، وظاهره أنّه أراد به فيما إذا بيعت بجنسها‏.‏ ووجهه أنّ فضّتها لمّا لم تصر مغلوبةً جعلت كأنّ كلّها فضّة في حقّ الصّرف احتياطاً‏.‏

42 - وذهب المالكيّة‏:‏ إلى جواز بيع نقد مغشوش، كدنانير فيها فضّة أو نحاس، أو دراهم فيها نحاس بمغشوش مثله مراطلةً أو مبادلةً‏.‏ قال الحطّاب‏:‏ ظاهره ولو لم يتساو غشّهما، وهو ظاهر كلام ابن رشد‏.‏ وجاز بيع نقد مغشوش بخالص من الغشّ على القول الرّاجح من كلام المدوّنة وغيرها‏.‏

والأظهر عند ابن رشد خلافه، أي‏:‏ منع بيع النّقد المغشوش بالنّقد الخالص من الغشّ، ونقل الأبيّ عن التّوضيح بعد ذكر الخلاف‏:‏ أنّهم إنّما تكلّموا في المغشوش الّذي لا يجري بين النّاس‏.‏ ويؤخذ من كلامهم جواز بيع المغشوش بصنفه الخالص إذا كان يجري بين النّاس‏.‏

ويشترط لجواز بيع المغشوش‏:‏ أن يباع لمن يكسره ليصيّغه حليّاً، أو لا يغشّ به بأن يدّخره لعاقبة مثلاً‏.‏

ويكره بيعه لمن لا يؤمن غشّه به‏:‏ كالصّيارفة، وفسخ بيعه ممّن يعلم أنّه يغشّ به إن كان قائماً وقدّر عليه إلاّ أن يفوت المغشوش‏.‏

43 - أمّا الشّافعيّة فقالوا‏:‏ الغشّ المخالط في الموزون ممنوع مطلقاً، قليلاً كان أم كثيراً، لأنّه يظهر في الوزن ويمنع التّماثل‏.‏ فلا تباع فضّة خالصة بمغشوشة، ولا فضّة مغشوشة بفضّة مغشوشة‏.‏

قال السّبكيّ‏:‏ لا يجوز بيع الخالصة بالمغشوشة، وإن قلّ الغشّ، سواء أكان الغشّ ممّا قيمته باقية أم لا، لا خلاف بين الأصحاب في ذلك، لأنّه إن كان الغشّ ممّا قيمته باقية فبيع الخالصة بالمغشوشة هو بيع فضّة بفضّة وشيء، فصار كمسألة ‏"‏ مدّ عجوة ‏"‏‏.‏

ولأنّ الفضّة هي المقصودة، وهي مجهولة غير متميّزة، فأشبه بيع تراب الصّاغة واللّبن المشوب بالماء‏.‏

وأمّا المغشوشة بغشّ لا قيمة له باقية فللجهل بالمماثلة، أو تحقّق المفاضلة، فلا يجوز بيعها بالخالصة، ولا بالمغشوشة مثلها‏.‏

ونقل السّبكيّ عن صاحب التّحفة في المغشوشة‏:‏ أنّه يكره أخذها وإمساكها إذا كان النّقد الّذي في أيدي النّاس خالصاً، لأنّ ذلك يتضمّن تغرير النّاس فلو كان جنس النّقد مغشوشاً فلا كراهة‏.‏ قال السّبكيّ‏:‏ وأفاد الرّويانيّ - أيضاً - أنّ الغشّ لو كان قليلاً مستهلكاً بحيث لا يأخذ حظّاً من الورق فلا تأثير له في إبطال البيع، لأنّ وجوده كعدمه‏.‏ وقد قيل‏:‏ يتعذّر طبع الفضّة إذا لم يخالطها خلط من جوهر آخر‏.‏‏.‏ قلت‏:‏ وذلك صحيح، وقد بلغني أنّ بعض البلاد في هذا الزّمان - زمان السّبكيّ - ضربت الفضّة خالصةً فتشقّقت، فجعل فيها في كلّ ألف درهم مثقالاً من ذهب فانصلحت، لكنّ مثل هذا إذا بيع لا يظهر في الميزان ما معه من الغشّ‏.‏

وكلّ ما ذكر في الفضّة يأتي في الذّهب حرفاً بحرف‏.‏

44 - وفصّل الحنابلة في بيع الأثمان المغشوشة بمثلها بين ما يكون الغشّ فيه متساوياً ومعلوم المقدار وما يكون الغشّ فيه غير متساو أو غير معلوم المقدار فقالوا بجواز بيع المغشوش بمثله في الأوّل وعدم جوازه في الثّاني‏.‏

قال البهوتيّ‏:‏ الأثمان المغشوشة إذا بيعت بغيرها، أي‏:‏ بأثمان خالصة من جنسها لم يجز، للعلم بالتّفاضل، وإن باع ديناراً أو درهماً مغشوشاً بمثله، والغشّ في الثّمن والمثمّن متفاوت، أو غير معلوم المقدار لم يجز، لأنّ الجهل بالتّساوي كالعلم بالتّفاضل‏.‏

وإن علم التّساوي في الذّهب الّذي في الدّينار، وعلم تساوي الغشّ الّذي فيهما جاز بيع أحدهما بالآخر، لتماثلهما في المقصود وهو الذّهب، وفي غيره، أي‏:‏ الغشّ وليست من مسألة ‏"‏ مدّ عجوة ‏"‏، لكون الغشّ غير مقصود، فكأنّه لا قيمة له كالملح في الخبز‏.‏

والمشهور في مذهب الحنابلة‏:‏ أنّ النّقود تتعيّن بالتّعيين في العقود فيثبت الملك في أعيانها، فعلى هذا إذا تبايعا ذهباً بفضّة فوجد أحدهما بما قبضه غشّاً من غير جنس المبيع مثل‏:‏ أن يجد الدّراهم رصاصاً، أو نحاساً، أو فيها شيء من ذلك فالصّرف باطل، لأنّه باعه غير ما سمّى له‏.‏ وإذا كان العيب من جنسه مثل‏:‏ كون الفضّة سوداء، أو خشنةً، أو سكّتها غير سكّة السّلطان فالعقد صحيح، والمشتري مخيّر بين الإمساك وبين فسخ العقد‏.‏

النّوع السّابع‏:‏ الصّرف بالفلوس

45 - الفلوس هي النّحاس، أو الحديد المضروب الّذي يتعامل بها‏.‏ فهي المسكوك من غير الذّهب والفضّة‏.‏

واتّفق الفقهاء على جواز البيع بالفلوس، لأنّها أموال متقوّمة معلومة، فإن كانت كاسدةً يجب تعيينها، لأنّها عروض، وإن كانت نافقةً لم يجب لأنّها من الأثمان كالذّهب والفضّة‏.‏

واختلف الفقهاء فيما إذا صرفت الفلوس النّافقة بالدّراهم والدّنانير نساءً، أو صرفت الفلوس بالفلوس تفاضلاً‏.‏ ولهم في ذلك اتّجاهان‏:‏

الاتّجاه الأوّل‏:‏

46 - ذهب الشّافعيّة والحنفيّة - عدا محمّد - والحنابلة في المشهور، وهو قول القاضي في الجامع وابن عقيل والشّيرازيّ وصاحب المستوعب وغيرهم إلى‏:‏ أنّه لا ربا في فلوس يتعامل بها عدداً ولو كانت نافقةً، لخروجها عن الكيل والوزن، وعدم النّصّ والإجماع في ذلك كما قال البهوتيّ، ولأنّ علّة حرمة الرّبا في الذّهب والفضّة الثّمنيّة الغالبة الّتي يعبّر عنها - أيضاً - بجوهريّة الأثمان، وهي منتفية عن الفلوس وإن راجت، كما قال الشّافعيّة‏.‏

واعتبر الشّافعيّة الفلوس من العروض وإن كانت نافقةً‏.‏ ووجّهه الحنفيّة‏:‏ بأنّ علّة الرّبا هي القدر مع الجنس، وهو الكيل أو الوزن المتّفق عند اتّحاد الجنس والمجانسة وإن وجدت هاهنا فلم يوجد القدر لأنّ الفلوس تباع بالعدد، وهذا إذا وقع البيع بأعيانها‏.‏

وعلى ذلك فيجوز بيع الفلوس بعضها ببعض متفاضلاً، كما يجوز بيع بيضة ببيضتين، وجوزة بجوزتين، وسكّين بسكّينين، ونحو ذلك إذا كان يداً بيد‏.‏

هذا، وقد فصّل الحنفيّة في الموضوع فقالوا‏:‏ يجوز بيع الفلس بالفلسين بأعيانهما عند أبي حنيفة وأبي يوسف إذا لم يكن كلاهما أو أحدهما ديناً، لأنّ الثّمنيّة في حقّهما تثبت باصطلاحهما، إذ لا ولاية للغير عليها، فتبطل باصطلاحهما، وإذا بطلت الثّمنيّة تتعيّن بالتّعيين، ولا يعود وزنيّاً لبقاء الاصطلاح على العدّ‏.‏

وقال محمّد‏:‏ لا يجوز لأنّ الثّمنيّة تثبت باصطلاح الكلّ فلا تبطل باصطلاحهما، وإذا بقيت أثماناً لا تتعيّن، فصار كما إذا كانا بغير أعيانهما كبيع الدّرهم بالدّرهمين‏.‏

قال ابن الهمام‏:‏ صور بيع الفلس بجنسه أربع‏:‏

الأولى‏:‏ أن يبيع فلساً بغير عينه بفلسين بغير أعيانهما فلا يجوز، لأنّ الفلوس الرّائجة أمثال متساوية - قطعاً - لاصطلاح النّاس على سقوط قيمة الجودة منها، فيكون أحدهما فضلاً خالياً مشروطاً في العقد وهو الرّبا‏.‏

الثّانية‏:‏ أن يبيع فلساً بعينه بفلسين بغير عينهما فلا يجوز - أيضاً - وإلاّ أمسك البائع الفلس المعيّن وقبضه بعينه منه مع فلس آخر، لاستحقاقه فلسين في ذمّته، فيرجع إليه عين ماله، ويبقى الفلس الآخر خالياً عن العوض‏.‏

الثّالثة‏:‏ أن يبيع فلسين بأعيانهما بفلس بغير عينه فلا يجوز كذلك، لأنّه لو جاز لقبض المشتري الفلسين، ودفع إليه أحدهما مكان ما استوجب عليه، فيبقى الآخر فضلاً بلا عوض استحقّ بعقد البيع، وهذا إذا رضي بتسليم المبيع قبل قبض الثّمن‏.‏

الرّابعة‏:‏ أن يبيع فلساً بعينه بفلسين بعينهما، فيجوز خلافاً لمحمّد‏.‏

الاتّجاه الثّاني‏:‏

47 - ذهب المالكيّة في الرّاجح عندهم - وهو رواية عند الحنابلة، جزم بها أبو الخطّاب في خلافه، وهو قول محمّد من الحنفيّة - إلى‏:‏ أنّه لا يجوز بيع الفلوس بعضها ببعض متفاضلاً ولا نساءً، ولا بيعها بالذّهب أو الفضّة نساءً‏.‏

ففي المدوّنة‏:‏ أرأيت إن اشتريت خاتم فضّة أو ذهب أو تبر ذهب بفلوس فافترقنا قبل أن نتقابض‏؟‏ قال‏:‏ لا يجوز لأنّ مالكاً قال‏:‏ لا يجوز فلس بفلسين ولا تجوز الفلوس بالذّهب والفضّة ولا بالدّنانير نظرةً‏.‏

ونقل ابن وهب عن يحيى بن سعيد وربيعة أنّهما كرها الفلوس بالفلوس بينهما فضل أو نظرة، وقالا‏:‏ إنّها صارت سكّةً مثل سكّة الدّنانير والدّراهم وحمل بعضهم الكراهة على التّحريم‏.‏ واستدلّ الحنفيّة لقول محمّد بعدم الجواز - أيضاً - بأنّ الفلوس أثمان فلا يجوز بيعها بجنسها متفاضلاً، كالدّراهم والدّنانير، ودلالة الوصف عبارة عمّا تقدّر به ماليّة الأعيان، وماليّة الأعيان كما تقدّر بالدّراهم والدّنانير تقدّر بالفلوس - أيضاً - فكانت أثماناً، والثّمن لا يتعيّن بالتّعيين عند الحنفيّة فالتحق التّعيين فيهما بالعدم‏.‏ فلا يجوز بيع فلس بفلسين بأعيانهما، كما لا يجوز بغير أعيانهما‏.‏ ولأنّها إذا كانت أثماناً فالواحد يقابل الواحد، فبقي الآخر فضل مال لا يقابله عوض في عقد المعاوضة، وهذا تفسير الرّبا، كما حرّره الكاسانيّ‏.‏

وقال ابن تيميّة‏:‏ الأظهر المنع من ذلك، فإنّ الفلوس النّافقة يغلب عليها حكم الأثمان، وتجعل معياراً لأموال النّاس‏.‏ ولهذا ينبغي للسّلطان أن يضرب لهم فلوساً تكون بقيمة العدل في معاملاتهم من غير ظلم لهم‏.‏

هذا، وتفصيل التّعامل بالفلوس وأحكامها في مصطلح‏:‏ ‏(‏فلوس‏)‏‏.‏

ظهور عيب أو نقص في بدل الصّرف

48 - لقد سبق القول‏:‏ بأنّ الصّرف لا يقبل خيار الشّرط لأنّ الخيار يمنع ثبوت الملك أو تمامه، وذلك مخلّ بالقبض المشروط‏.‏

أمّا خيار العيب فلا يمنع تمام العقد فيثبت في الصّرف، لأنّ السّلامة عن العيب مطلوبة عادةً ففقدانها يوجب الخيار كسائر البياعات‏.‏

هذا، وللفقهاء في الموضوع تفصيل نذكره فيما يلي‏:‏

قال الحنفيّة‏:‏ إنّ بدل الصّرف إذا كان عيناً فردّه بالعيب يفسخ العقد، سواء أكان الرّدّ في المجلس أو بعد الافتراق، ويرجع على البائع بما نقد، وإن كان ديناً بأن وجد الدّراهم المقبوضة زيوفاً أو كاسدةً، أو وجدها رائجةً في بعض التّجارات دون البعض - وذلك عيب عند التّجارة - فردّها في المجلس ينفسخ العقد بالرّدّ، حتّى لو استبدل مكانه مضيّ الصّرف‏.‏

وإن ردّها بعد الافتراق بطل الصّرف عند أبي حنيفة وزفر، لحصول الافتراق لا عن قبض، وعند أبي يوسف، ومحمّد لا يبطل إذا استبدل في مجلس الرّدّ‏.‏

وإذا ظهر العيب في بعضه فردّ المعيب في المردود انتقض الصّرف في المردود، وبقي في غيره، لارتفاع القبض فيه فقط‏.‏

ومثله ما ذكره المالكيّة بعبارة مختلفة وتفصيل حيث قالوا‏:‏ إن وجد أحدهما عيباً في دراهمه، أو دنانيره من نقص أو غشّ، أو غير فضّة ولا ذهب كرصاص ونحاس، فإن كان بالحضرة من غير مفارقة ولا طول جاز له الرّضا وصحّ الصّرف وطلب الإتمام في النّاقص أو البدل في الغشّ والرّصاص فيجبر عليه من أباه إن لم تعيّن الدّنانير والدّراهم من الجانبين‏.‏

وإن كان بعد مفارقة، أو طول في المجلس فإن رضي بغير النّقص صحّ الصّرف، وإلاّ نقض، وأخذ كلّ منهما ما خرج من يده‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ لو وقع الصّرف على العين على أنّها فضّة أو ذهب، وخرج أحدهما أو كلاهما نحاساً بطل العقد، لأنّه بان أنّه غير ما عقد عليه، وإن خرج بعضه نحاساً، أو نحوه صحّ العقد في الباقي دونه بالقسط، ولصاحب الباقي الخيار بين الإجازة والفسخ‏.‏ وإن خرج كلّه أو بعضه معيباً تخيّر ولم يستبدل، لأنّ العقد ورد على عينه فلا يتجاوزه الحقّ إلى غيره‏.‏

وإن وقع الصّرف على ما في الذّمّة فخرج أحدهما أو كلاهما نحاساً قبل التّفرّق استبدل به‏.‏ وإن خرج نحاساً بعد التّفرّق بطل العقد لعدم التّقابض‏.‏ وإن خرج كلّه أو بعضه معيباً استبدل في مجلس الرّدّ، وإن فارق مجلس العقد‏.‏ وهذا بناءً على أنّ الأثمان تتعيّن بالتّعيين عندهم وسيأتي تفصيله في الفقرة التّالية‏.‏

ومثله ما ذكره الحنابلة حيث قالوا‏:‏ إن ظهر عيب في جميع أحد العوضين ولو يسيراً من غير جنسه كنحاس في الدّراهم والمسّ في الذّهب بطل العقد، لأنّه باعه غير ما سمّى له‏.‏ وإن ظهر في بعضه بطل العقد فيه فقط، وهذا إذا كان الصّرف عيناً بعين، بأن يقول‏:‏ بعتك هذه الدّراهم بهذه الدّنانير ويشير إليهما وهما حاضران‏.‏ والعيب من غير جنس المبيع كما قال ابن قدامة‏.‏ أمّا إذا كان من جنس المبيع مثل‏:‏ كون الفضّة سوداء، أو خشنةً، فالعقد صحيح، والمشتري مخيّر بين الإمساك وبين فسخ العقد والرّدّ، وليس له البدل، لأنّ العقد واقع على عينه، فإذا أخذ غيره أخذ ما لم يشتر‏.‏

وإن وقع العقد بغير عينه كأن يقول‏:‏ بعتك ديناراً مصريّاً بعشرة دراهم يصحّ، لكن لا بدّ من تعيينهما بالتّقابض في المجلس، وإذا تقابضا فوجد أحدهما بما قبضه عيباً قبل التّفرّق فله المطالبة بالبدل، سواء أكان العيب من جنسه أم من غير جنسه، لأنّ العقد وقع على مطلق لا عيب فيه فله المطالبة بما وقع عليه العقد، وإن رضيه بعيبه والعيب من جنسه جاز، وإن أخذ الأرش فإن كان العوضان من جنس واحد لم يجز لإفضائه إلى التّفاضل فيما يشترط فيه التّماثل‏.‏ وإن كانا من جنسين جاز‏.‏

تعيّن النّقود بالتّعيين في الصّرف

49 - ذهب جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة في المذهب - إلى‏:‏ أنّ الدّراهم والدّنانير تتعيّن بالتّعيين بمعنى أنّه يثبت الملك بالعقد فيما عيّناه، ويتعيّن عوضاً فيه، فلا يجوز استبداله كما في سائر الأعواض، وإن خرج مغصوباً بطل العقد، وهذا لأنّ الدّراهم والدّنانير عوض في عقد فيتعيّن بالتّعيين كسائر الأعواض، ولأنّ للمتبايعين غرضاً في التّعيين، فلا بدّ أن يكون له أثر، ولهذا لو اشترى ذهباً بورق بعينهما فوجد أحدهما فيما اشتراه عيباً من جنسه فله الخيار بين أن يردّ أو يقبل، وليس له البدل كما سبق‏.‏

وقال الحنفيّة وكذا الحنابلة في رواية‏:‏ إنّ الأثمان النّقديّة لا تتعيّن بالتّعيين أي‏:‏ إنّ البدلين في الصّرف لا يتعيّنان بالتّعيين، فلو تبايعا دراهم بدينار جاز أن يمسكا ما أشارا إليه في العقد ويؤدّيا بدله قبل الافتراق‏.‏

وذلك لأنّ الثّمن في اللّغة اسم لما في الذّمّة كما نقل عن الفرّاء، فلم يكن محتملاً للتّعيين بالإشارة، ولهذا يجوز إطلاق الدّراهم والدّنانير في الصّرف بغير الإشارة‏.‏

وعلى ذلك يجوز إبدالها، ولا يبطل العقد بخروجها مغصوبةً‏.‏

الموسوعة الفقهية / نهاية الجزء السادس والعشرين